recent
منشوراتنا

المشروع الذي غير معالم الفكر: ترجمة الفلسفة اليونانية على يد المسلمين

تخيّل بغداد في القرن التاسع. مدينة تضج بالحياة: تُفرغ قوافل الهند صناديقها من التوابل، ويهبّ من جهة الصين حرير لامع، ويهبط علماء الشام يحملون تحت آباطهم مخطوطات عتيقة. في ظلّ القصر العباسي المنيف، نوع جديد من الكنوز يتبادل الأيدي: ليس ذهباً، بل معرفة.

جمع الخلفاء العباسيون الكتب كما يجمع غيرهم الذخائر. وفي رفوف مكتباتهم أخذت تصل نصوص اليونان: أفلاطون وأرسطو وجالينوس وأفلوطين. فَلِمَ كان هؤلاء الحكّام والعلماء المسلمون، على بُعد قرون من أثينا والإسكندرية، يولون هذه المؤلفات عناية تكاد تضاهي عناية المرء بروحه؟

الجواب في حركة ستقلب مجرى التاريخ: حركة الترجمة الكبرى للفلسفة اليونانية إلى العربية. لم تكن انتقالَ ألفاظٍ بين لغات، بل عبورَ أفكارٍ بين عوالم.

المشروع الذي غير معالم الفكر: ترجمة الفلسفة اليونانية على يد المسلمين - الفلسفة الوسيطية

1) الخلفية التاريخية

لنعد إلى بغداد المتخيَّلة: لم تُبنَ المدينة في يوم، ولم ينبت شغفها بالكتب من فراغ. جاءت الثورة العباسية في منتصف القرن الثامن بمشهد سياسي جديد وعاصمة جديدة—بغداد—تلتفت شرقاً كما غرباً. ورث العباسيون حِذق الإدارة الفارسية، ونخبة كوزموبوليتية، وذائقة للمعرفة تتخطى الحدود الدينية والعرقية. تخيّل الإمبراطورية سوقاً للغات والصنائع؛ تسير فيه المعرفة على الدروب نفسها التي تسير عليها الحرير والتوابل.

لكن نصوص اليونان لم تحطّ فجأة. فقد ظلّ العلم اليوناني قروناً محفوظاً على أطراف العالم البيزنطي، خاصة عند الجماعات المسيحية السريانية وفي مراكز فارسية مثل جُنديسابور. هناك تُرجمت أعمالٌ طبية وفلسفية وعلمية من اليونانية إلى السريانية، فنجت من عواصف أواخر العهد القديم. وحين شرع العباسيون يجمعون الكتب، كانت مكتبات السريان وعلماؤهم هم الجسر الحاسم: دخلت أعمال كثيرة العربية عبر السريانية، قبل أن تتكوّن لاحقاً تقاليد مباشرة من اليونانية إلى العربية.

ثم حضر البلاط ورعاته. خلفاء فضوليون طامحون إلى شرعية العقل كما إلى سلطان السيف، موّلوا المكتبات ومجالس العلماء. برز بيت الحكمة في بغداد مركزاً رمزياً تُنسخ فيه النصوص، وتقارن، وتُنقل. الترجمة لم تكن فعلَ فرد، بل صناعة اجتماعية: فرق من ثنائِيّي اللغة، أطباء ونحاة، يتفاوضون على كيفيات صوغ المعاني الدخيلة في عبارات عربية، ويبتدعون المصطلح عند الحاجة.

هكذا اكتملت في القرن التاسع عناصر عاصفة مواتية: نصوص محفوظة في الأطراف، وسطاء لغويون، ورعاة يملكون القدرة على الجمع والتنظيم. تهيأ المسرح لحركة ترجمة لا تنقل الكلمات فحسب، بل تُقِلّ طرائق التفكير إلى تربة معرفية جديدة.


2) انطلاق حركة الترجمة

ادخل غرفة من غرف بيت الحكمة. عالم يفرد مخطوطاً باليونانية، إلى جواره آخر يتلوه بالسريانية، وثالث يخطّه بالعربية، يتوقفون أحياناً للمداولة: أهي “جوهر” أم “ماهية”؟ ما يبدو فعلاً تقنياً جافاً إنما هو مولدُ عالمٍ فكري كامل.

اكتسبت حركة الترجمة زخمها في عهد الخلفاء العباسيين، وخصوصاً المنصور (754–775) الذي بدأ بالتنجيم والطب، ثم المأمون (813–833) الذي أضفى على بيت الحكمة ذروة إشعاعه. كان المأمون مفتوناً بالعقل والمعرفة، حتى إنه بعث رُسُلاً إلى بلاد الروم يستقدمون المخطوطات كأنها ودائع دبلوماسية.

ومن أوائل نجوم هذه الحركة حنين بن إسحاق (808–873)، العالم النسطوري الضليع باليونانية والسريانية والعربية. كانت طريقته فتحاً: لا يترجم حرفاً بحرف، بل معنى بمعنى، يطلب البيان العربي لا الدقة الآلية. أصبحت ترجماته لأعمال جالينوس في الطب ورسائل أرسطو المنطقية معالمَ لا يُستغنى عنها.

تابع ابنه إسحاق بن حنين الطريق، فنقل كتباً لأرسطو ولسواه، وشاركهما ثابت بن قرة—الرياضي الموهوب—في إغناء العربية بمفاهيم جديدة في الهندسة والفلك.

على أيدي هؤلاء، خرجت الأفكار التي عاشت يوماً في أروقة أثينا أو مكتبات الإسكندرية إلى الحياة العلمية في بغداد، وفي هذا الخروج نمت العربية ذاتها: وُلد معجم فلسفي وعلمي جديد، صاغته ضرورة حمل الفكر اليوناني إلى لسان سامي.

لذا حين نقول “ترجمة” ينبغي أن نرى أكثر من معاجم؛ علينا أن نتخيل لقاء عقول، وتفاوضاً دقيقاً بين عوالم، حيث تُمنح الفلسفة حياة ثانية.


3) دوافع الترجمة

لماذا بذل العباسيون هذا الجهد والمال والوقت في ترجمة الفلسفة اليونانية؟ أهو محض فضول؟ أم أن الأمر أعمق؟ الجواب مزيج من الحاجة العملية والجوع المعرفي والطموح السياسي.

- دوافع عملية:

احتاج حكام الدولة العباسية إلى معرفة تُدير إمبراطورية واسعة. الطبّ، الفلك، الرياضيات، والهندسة لم تكن ترفاً بل أدوات سيادة وبقاء. ألّف جالينوس أطباءهم، وصحّح بطليموس بالمجسطي أرصادهم، وصقَل إقليدس عقولهم الحسابية. وجاءت الفلسفة في معية هذه العلوم، إذ ارتبط المنطق والميتافيزيقا بالطب والفيزياء في تقاليد اليونان.

- دوافع معرفية:

القرآن يحضّ على النظر في الخلق، واستعمال العقل، وطلب الحكمة. لم يرَ العلماء المسلمون تعارضاً بين الإيمان والتحقيق العقلي؛ بل اعتقدوا أن العقل يعمّق فهم الوحي. أصبح منطق أرسطو أداةً لتهذيب الجدل في علم الكلام والفقه. لم تكن الترجمة فضولاً، بل تسليحاً للعقل المسلم بآلات أوضح للحُجّة.

- دوافع سياسية:

ثمة هيبة أيضاً. أراد العباسيون أن تتفوق بغداد على أثينا والإسكندرية والقسطنطينية عاصمةً للحضارة. برعاية الترجمة قدّم الخلفاء أنفسهم ورثةً للمعرفة الكونية: سادة أرضٍ وحكمة. وقد تَمثّل المأمون صورة “الملك الفيلسوف”، صدى حلم أفلاطون بالحكم بالبرهان.

هكذا لم تكن حركة الترجمة مجرد عبور ألفاظ؛ كانت تأسيس إمبراطورية للعقل، تتآخى فيها الحُجّة والوحي والسلطان.


4) وصول الفلسفة

ابتدأت الحركة بالطب والفلك والرياضيات—علوم تضع يدها مباشرة على حاجات العيش والحكم. ثم تسلّل نوع آخر من المعرفة: الفلسفة. وما إن دخل حتى استعصى على الخروج.

كان أول ضيف يوناني بثوب عربي هو منطق أرسطو. وللعلماء المسلمين كان أكثر من نظرية تجريدية؛ كان طريقة جديدة في التفكّر. وضع المنطق قواعد للتسديد العقلي، درعاً ضد الزلل، وأداة للجدل الكلامي. أدرك المتكلمون سريعاً أن أرسطو يسقل حججهم في الإله والخلق والنفس.

لكن أرسطو لم يأت وحيداً. عبر الوساطة السريانية دخلت أعمال لأفلاطون وللأفلاطونية المحدثة، وأحياناً تحت اسم أرسطو نفسه! المثال الأشهر “ثيولوجيا أرسطو” وهي في حقيقتها تلخيصٌ وتحوير من تاسوعات أفلوطين. تصوّر الدهشة: قارئ مسلم يظن نفسه مع أرسطو، وهو يتشرّب فكرة الصدور ووحدة “الواحد” على النحو الأفلوطيني.

فكيف استقبل المسلمون ذلك؟ بطاقةٍ لا بركون. احتفى الكندي—فيلسوف العرب—بفكر اليونان بوصفه ذخيرة يمكن أن تتناغم مع الإسلام. قال كلمته الشهيرة: لا ينبغي أن نستحيي من استحسان الحق واقتناءه من أيّ جهة أتى.

وسرعان ما دبّ الجدل: هل ينسجم قدم العالم عند أرسطو مع حدوثه قرآناً؟ هل يتخاطب العقل والنقل بلسان واحد؟ ليست هذه أحاجي أكاديمية جافة؛ بل أسئلة ملتهبة في صميم الإيمان والهوية.


5) تحويل لا مجرد ترجمة

لو كانت الترجمة نقلاً محضاً لانطفأت الحكاية سريعاً. غير أن فرادة هذه الصفحة من التاريخ في ما تلا الترجمة: لقد بدأ العقل المسلم يُحوّل ما ورثه.

خذ الكندي (ت 873): لم يكتف بقراءة أرسطو وأفلوطين، بل قرّر أن الفلسفة خادمة للدين، وأن العقل يوضح الحقيقة الإلهية. كانت الفلسفة عنده سلماً يقرّب الذهن من الله.

ثم جاء الفارابي (ت 950) فزاوج أفلاطون بأرسطو في رؤية كبرى للسياسة والمجتمع. في “المدينة الفاضلة” تخيّل حاكماً يجمع حكمة الفيلسوف وهداية النبي—تركیب فريد لا نظير يونانياً مباشراً له.

وعند ابن سينا (ت 1037) اندفع النظر الميتافيزيقي إلى آفاق جريئة. استعار من أرسطو التمييز بين الجوهر والعرض، لكنه عمّقه إلى قسمة نافذة بين واجب الوجود—الله—والممكنات—ما سواه. فكرة ستدوي قروناً، حتى في الفلسفة المسيحية الوسيطة.

وفي الغرب الإسلامي، غدا ابن رشد (ت 1198) نصيرَ أرسطو الأكبر، مصراً على أن لا خصومة ضرورية بين الفلسفة والوحي. انتقد المتكلمين والفلاسفة معاً حين زلّوا عن مقتضى البرهان، ودافع عن أرسطية منضبطة. ستعبر شروحه إلى اللاتينية، وتؤثر في توما الأكويني، وتطلق سجال العقل والإيمان في أوروبا.

الخلاصة جلية: لم يكن المسلمون متلقّين سلبيين. كانوا مؤلفين وشارحين ومبدعين. لم يحفظوا الفلسفة اليونانية فحسب؛ بل أعادوا خلقها، ونسجوها في نسيج ثقافي جديد التقت فيه أثينا ببغداد، فتجدّدت للفلسفة حياة أخرى.


6) تأمل معاصر

يسهل أن نرى ترجمة الفلسفة اليونانية إلى العربية تاريخاً غَبِرَ الصفحات وأسماءً تُنسى. لكن الحقيقة أشهى: كان ذلك لقاء حضارات، وبرهاناً حيّاً على أن الأفكار تسافر وتتحوّل وتُلهم عبر حدود اللغة والثقافة والإيمان.

لم يسأل العباسيون: أهذا العلم يوناني أم فارسي أم هندي؟ سألوا: أهو حق؟ أنفع؟ أأجدر بأن يجعلنا أحكم؟ بهذا الانفتاح وُلد عصر ذهبي للفكر، حيث يُجاور أفلاطون الفارابي، ويُقرأ أرسطو إلى جانب القرآن، ويصوغ حنين بن إسحاق—المسيحي النسطوري—لغة الفلسفة الإسلامية ذاتها.

وفي عالم اليوم، حيث تُرفع الاختلافات أسواراً، يقدّم لنا هذا الدرس معنى آخر: المعرفة تشتدّ قوةً حين تُتَبادل لا حين تُحتكر. تذكّرنا حركة الترجمة أن الحقيقة بلا جواز سفر، وأن الحكمة لا لغة واحدة لها.

فإذا سمعت غداً عن “التراث اليوناني” و”التراث الإسلامي”، فلا تراهما مجريين منفصلين، بل نهراً واحداً عظيماً للفكر، يجري في أراضٍ شتى، ويحمل معه الأسئلة التي تجعلنا بشراً.

google-playkhamsatmostaqltradent