تخيَّل ديراً قصيّاً عند تخوم العالم الروماني المتأخّر. الإمبراطورية تتداعى، الحدود تتبدّل، وجلبة القبائل تعلو وتخبو؛ وفي الداخل لا يُسمع سوى خشخشة قلم قصبيّ على رق. عالِم من السريان ينحني على مكتب خشبي، عيناه تُكابدان وهج الشمعة، وأمامه مخطوط يوناني مهترئ. سطرًا فسطرًا يُحوِّل ما على الصفحة إلى لغته، حذرًا من خيانة المعنى، عمليًّا بما يكفي ليُعيد النص إلى الحياة. هو لا ينسخ ورقًا، بل يحرس معنى، لكي لا تذوي الفلسفة اليونانية في صمت الأقبية.
فلنتمهَّل. كثيرًا ما ننسى أن الفلسفة كادت تنقرض. لا سحابة رقميّة تحفظ النسخ؛ كل نص—من «الأورغانون» لـأرسطو إلى رسائل جالينوس—كان معلّقًا بخيوط من حبر وجغرافيا وعنادة بشرية. سقوط مكتبةٍ هنا، ونهب ديرٍ هناك، كان كافيًا ليُخِلَّ بميزان الذاكرة الكونية.
والمفارقة أن العلماء أنفسهم، أولئك المتوارين في الرها ونصيبين، صاروا جسورًا لا غنى عنها بين عصور اليونان وزمن الفلسفة الإسلامية في المشرق. لولاهم لربما لم يجادل ابن سينا أستاذه الإغريقي كما فعل، ولا استقامت لتوما الأكويني تلك الحِدّة اليونانية التي اشتغل بها، ولخَسِرَت رفوفنا الحديثة جزءًا من عدّتها العقلية. هذه حكايتهم: دراما النُّسّاخة وسباقُ تتابُعِ الحكمة؛ لا تبدأ بهضاب أثينا، بل بمسيحيّين يكتبون بالسريانية كي لا يَخرس صوت أفلاطون وأرسطو وجالينوس.
«الناسُ جميعًا بالطبعِ يبتغونَ المعرفة.» — أرسطو
العالم بعد اليونان
بعد لمعان العصر الكلاسيكي، دخل المسرح طورًا مضطربًا. الإمبراطورية الرومانية، التي آوت ما آوت من تراث اليونان، راحت تهتزّ على قوائم ثلاث مائلة. في القرنين الخامس والسادس انهار غربها، فانهارت معه مكتبات ومراكزُ تعلمٍ وروتين «التنظيف» النصيّ الذي يضمن بقاء الكتب. احتُرقت لفائف في الحروب، نُهِبت أديرة، وتحوّلت المعرفة إلى شيء هشّ، مُبعثر، يتنازعُه الفقدُ والتصحيف.
وفي الشرق، جرت حكاية أخرى. ظلت القسطنطينية تُمسك باليونانية كلغة علم، وخارج أسوارها قامت جماعات مسيحية حيّة، لغتها الأم السريانية—السريان النساطرة واليعاقبة وسواهم. وبين جدالات لاهوتية دقيقة—وأحيانًا عنيدة—لم تُغمِض هذه الجماعات عيونها عن الطبّ عند جالينوس، والمنطق عند أرسطو، والكونيات عند أفلاطون. لم يكونوا حرّاس خزائن فحسب، بل كانوا مُترجمين ومُعلّمين ووسطاء ثقافة، يعيشون عند مفترق لغتين وذاكرتين، إذ كانت اليونانية حاضرة في الكنيسة والمدرسة، والسريانية في البيت والمجتمع.
وحين هبّ الفتح الإسلامي في القرن السابع، صار هذا المفترقُ قدرًا تاريخيًّا: وُجد السريان ومعهم صناديق المعاني اليونانية، على أهبة أن تُفتَح وتُسلَّم إلى عالمٍ عربيٍّ ناشئ. بعبارة نقدية أقرب إلى حسّ جابريّ: هنا تشكّلت الوساطة الحضارية التي ستسمح بانتقال «العقل البرهاني» من اليونان عبر السريانية إلى العربية، فيُعاد بناؤه داخل أفقٍ جديد دون أن يفقد صرامته.
«لا ينبغي لنا أن نستحي من استحسان الحقّ واقتناء الحقّ من أين أتى، وإن أتى من الأمم القاصية عنّا.» — الكندي
العلماء السريان – جسور بشرية للحضارة
ادخل برفقٍ قاعةَ درسٍ في القرن السادس. رائحة الحبر وزيت السرج، ورفوفٌ هي أقرب إلى تجاويف خشبية تحمل رُقوقًا مجلّدة. ليس هذا خلْوَةَ راهب فحسب، بل مختبر بقاءٍ ثقافي. في الرها ونصيبين، ولاحقًا في جنديسابور، لم تُنسَخ النصوص المقدسة فقط، بل قُرئت أيضًا مقالات المنطق والطبّ والكونيات. إنّه جهدٌ يرى في صيانة «النص العقلي» جزءًا من صيانة «النص الديني» بفهمٍ أوسع لرسالة الكتابة.
تبدو الأسماء هنا علاماتِ طريق: سرجيوس الرهاوي (ت 536م) في الطور الأوّل يترجم لجالينوس إلى السريانية، واضعًا عصبًا معرفيًّا سيغذّي ما وراء الطبّ. بعد قرن يتصلّب تقليد مدارس نصيبين؛ علماء يجمعون بين مدارسة قضايا الكلمة المتجسّدة ومجادلة قضايا التصنيف والعلّية عند اليونان. ما يعنينا ليس الأسماء فحسب، بل الطريقة التي جمعت بين الحسّ اللاهوتي والدُربة الفلسفية في نَفَس واحد.
سرّ جاذبيتهم في ازدواج اللسان والرؤية: مسيحيون يتعبّدون بالسريانية، وفلاسفة يصوغون اليوناني في السريانية نفسها. كيف تُنقل دقّة مقولات أرسطو إلى لغة ساميّة ذات بنى مغايرة؟ بالاشتقاق والارتجال المدروس والاقتراض الواعي. تولّدت ألفاظٌ وتقابلات ستُصبِح لاحقًا أدوات جاهزة حين دخلت العربية المسرح: فقد وُضِعت مقابلات لـ«أوسيا» و«لوغوس»، فغدت «جوهرًا» و«نُطقًا/عقلاً/قولاً» بحسب السياق، وتأسّست ثنائية «جوهر/عرض» التي ستبني عليها الفلسفة العربية منطقها الداخلي.
إنها دبلوماسية بطيئة لا بين دول، بل بين أكوان رمزية. ومن دون هذه الطبقة السريانية الوسيطة، لكان صخب الترجمة العباسية افتقر إلى الأرض الصلبة. لقد جعل السريان النصَّ قابلًا للعيش في لسانٍ آخر دون أن يُكْسِروه أو يُلصِقوه، بل بإعادة توليده داخل أفقٍ جديد.
حركة الترجمة ومناهجها
لم يكن انتقال الفكر اليوناني إلى العالم الإسلامي مصادفة ولا فوضى. كان ثمرة عمل منظّم ممتدّ، يتوسّطه السريان. المسار الغالب: يونانية ← سريانية ← عربية. غير أنّ السريانية لم تكن «محطة لغوية» محايدة، بل «مرشحًا» معرفيًّا يتشكّل فيه النصّ ويُعاد تهيئته. حين بلغت حركة الترجمة ذروتها، كانت السريانية قد أعدّت المفاهيم وأهلتها لكي تنطق بالعربية دون أن تلغو.
على مستوى الأسلوب، بدأ كثير من الترجمات بحرفيةٍ تُبقي البنية اليونانية كما هي، فتثقل على القارئ السرياني. لكن مع الخبرة، تحوّل الميزان من «حرف» إلى «معنى»: تُنقَل القوة العقلية قبل صيغتها النحوية. هذا التحوّل هو الذي مَهَّد لصياغات عربية أنضر في العصر العباسي، قادرة على الجمع بين الدقة والبيان.
وعلى مستوى الجهاز المفهومي، فرضت الترجمة ابتكارًا في اللفظ والمعنى معًا. أين تضع «أوسيا» و«لوغوس» في خارطة ساميّة؟ بالاقتراض حينًا، وبالتوليد حينًا، وبالمزج الموقوت بينهما. هكذا استوى المصطلح بوصفه بيت المعنى: «جوهر» و«عرض» مثلًا سيُصبحان حجرَي زاوية في خطاب الفلاسفة والمتكلّمين معًا.
ولم يكن المترجم شارحًا صامتًا؛ كثيرًا ما أضاف حواشٍ وتوضيحات، فجاء النصّ ترجمةً وتأويلاً في آن. هنا يشتغل «العقل المفسِّر» داخل «العقل المترجِم»، فتُصان هوية النصّ ويُمهَّد له طريق الجدال والنقد.
تتجلّى ذروة هذا المنحى في عمل حنين بن إسحاق (ت 873م). تَتَبَّع الأصول اليونانية، وقارن النسخ، ورتّب الترجمات درجات: سريانية مضبوطة أولًا، فعربية مصقولة ثانيًا. لم يُنتج نصوصًا سليمة لجالينوس فحسب، بل وضع معيارًا لمنهج يتزاوج فيه التحقيق بالدقّة والبيان بالصرامة.
- جمع الأصول: السفر لاقتناء النسخ، ومقابلة الشواهد لاستخراج نصّ أقرب إلى ما أراده المؤلِّف.
- طبقتان للترجمة: سريانية دقيقة تحفظ هيكل المعنى، ثم عربية تُعيد صياغته في نسق اللسان العربي.
- ترسيم المصطلحات: توحيد مقابلات المفاهيم وتقييدها في معاجمٍ صغيرة تُلازِم النص، لتأمين تداولٍ مستقرّ.
خلاصة الأمر: لم يصنع السريان جسورًا لفظية فحسب، بل أسّسوا منهجًا يحفظ بنية العلم ويؤهّله للإقامة في لغةٍ أخرى. لذلك ورثت العربية جسدًا نصّيًّا قابلًا للنقد والتطوير، لا صدى مشوّهًا. في هذا الأفق ستعمل ورش بيت الحكمة في بغداد، حيث تُستأنف الرحلة: من نصّ محفوظ إلى فكرٍ مُبدِع.
نعود إلى الدير الأول: شمعة تترنّح، قلم يخطّ، ويد تُوازن بين أمانة النقل وضرورات الإفهام. من هذا الهامش الهادئ وُلدت بنيةٌ من المعنى ستُغذّي العصور اللاحقة. إنّها قصة انتقال العقل من لسانٍ إلى لسان، ومن زمنٍ إلى زمن، دون أن يفقد قدرته على السؤال: كيف نفكّر، وبماذا نُسمّي ما نفكّر فيه؟
للمزيد من المعلومات:
- Brock, Sebastian P. Syriac Perspectives on Late Antiquity. Variorum Reprints, 1984.
- Endress, Gerhard. Greek Philosophy in the Arabic Tradition. Ashgate Variorum, 1997.
- Gutas, Dimitri. Greek Thought, Arabic Culture: The Graeco-Arabic Translation Movement in Baghdad and Early ‘Abbāsid Society (2nd–4th/8th–10th Centuries). Routledge, 1998.
- Nasr, Seyyed Hossein, and Oliver Leaman, editors. History of Islamic Philosophy. Routledge, 1996.
- Rosenthal, Franz. The Classical Heritage in Islam. Routledge & Kegan Paul, 1975.
- Walzer, Richard. Greek into Arabic: Essays on Islamic Philosophy. Harvard University Press, 1962.
