recent
منشوراتنا

الرؤية العباسية وبناء إمبراطورية العقل

حين صعدت دولة العباسيون إلى السلطة سنة 750م، لم يكتفوا بإدارة إمبراطورية مترامية، بل صاغوا مشروعاً حضارياً يعيد تعريف معنى القوة: ليست الجيوش والذهب وحدهما معيار السلطان، بل ما يستقر في العقول من معرفة، وما يتكوّن في الأذهان من نسق. هناك، في بغداد التي شيّدت كمدينة-عقل، تهيّأت للموروث الإنساني فرصة ثانية، وكانت الفلسفة — في لغتها العربية الجديدة — أحد أبهى تمظهرات ذلك التحوّل.

لم يكن احتضان العباسيين للفكر اليوناني نزوة مثقف أو زينة بلا وظيفة؛ كان رؤية استراتيجية: أن تُستعاد حكمة القدماء بوساطة الترجمة، ثم تُعاد صياغتها في أفق الإسلام وروحه، لا بوصفها نقلاً آلياً، بل فعلاً تركيبيّاً يزاوج بين البرهان وضرورات العمران.

الرؤية العباسية وبناء إمبراطورية العقل - الفلسفة الوسيطية

الخلفاء رعاة الترجمة

أدرك الخلفاء أن بناء دولة متينة يحتاج إلى ما هو أبعد من الضرائب والسيوف. استدعى المنصور (754–775م) العلماء إلى مجلسه، وشجّع نقل علوم الفرس واليونان إلى العربية: الطب والفلك والرياضيات دخلت الفضاء الإسلامي لتؤسس لاحقاً لمناظير السؤال الفلسفي ومنطقه. كان ذلك تأسيس البنية التحتيّة للعقل البرهاني بوصفه أداةً للسياسة والتدبير والدين معاً.

ثم جاء عهد المأمون (813–833م) ليحوّل المبادرة إلى حركة. لم تعد الترجمة عملاً فردياً، بل مشروعاً مؤسّسياً تُنجزه فرق من أطباء ونحاة ومتكلّمين، يناقشون المصطلح ويبتكرون المقابل ويصحّحون النص. هكذا صار النص اليوناني مادة حية تُعاد قراءتها وتفكيكها وتركيبها في ضوء حاجات العصر ورهاناته.

«لا ينبغي أن نستحيي من استحسان الحق واقتناءه من أيّ جهة أتى.» — الكندي

المأمون وبيت الحكمة

في قلب بغداد أقام المأمون مؤسّسته الأيقونية: بيت الحكمة. هناك تلاقت أقلام النسطوريين المتمرّسين باليونانية مع عيون الفرس الطبية وخبرة المسلمين في البيان والفقه. قيل إن المأمون رأى في حلمه أرسطو؛ سواء أكان ذلك أسطورة أم حقيقة، فقد كان رمزاً لخياره: إيواء العقل البرهاني في فضاء الدولة، وتغذية السلطة بالمعرفة لا بالعسف.

تُرجمت كتب المنطق — المنطق الأرسطي — وأعمال جالينوس وبطليموس وأفلاطون، ولم يكن الترجمان ناسخاً، بل محاوراً ومؤوِّلاً. في هذا الأفق أضحى التلاقي الحضاري حقيقة معرفية: تُجرى المقابلات بين النسخ، وتُنقد العبارات، ويُستولد المعجم الجديد الذي يُمكّن العربية من حمل أثقال المصطلح الفلسفي دون أن تنكسر.

لقاء الفلسفة واللاهوت: حرية مضبوطة

لكن السلطة لا تترك العقل يسبح بلا شواطئ. أرادت الدولة التفكير، وخشيت الفوضى. هنا يتبلور التوتّر الخلّاق الذي يمكن نعته بـالحرية المنضبطة: انفتاح منهجي على البرهان، ضمن حدود تُرسم باسم الشرع والسياسة. جاءت المحنة مثالاً ساطعاً: فرضُ القول بخلق القرآن لم يكن قضيةً لاهوتية فحسب، بل ترتيباً لسلطة التأويل ومرجعياتها داخل الدولة.

هذا التوتّر لم يُجهِض الفكر، بل حفّزه. انخرط المعتزلة في الدفاع عن العقل أداةً للإيمان، وخشي التقليديون من تسرّب فلسفة تُقوّض البداهة النصية. بين هذين القطبين سعت السياسة إلى موازنة دقيقـة: تشجّع السؤال، وتضبط مجالَه. من هذا الاحتكاك تولّدت مدارس وجدل، وتشكّلت لغة جديدة للكلام والفقه وأصول النظر.

  1. حريةٌ تُعطي للعقل أدواته البرهانية، وتوسّع أفق السؤال دون الإلقاء به في العدم.
  2. انضباطٌ يحدّد دائرة التداول الشرعي والسياسي، صوناً للوحدة ومنعاً لتشظّي الجماعة.
  3. جدلٌ منتج يجعل التوتّر بين النص والعقل محرّكاً للابتكار، لا سبباً للقطيعة.

إرث الرعاية العباسية

ما بدأته الدولة تجاوز حدود توقّعها. لولا رعاية الترجمة، لبقيت مخطوطات اليونان حبيسة زوايا الإمبراطورية البيزنطية؛ ومع مشروع العباسيين، أُعيد بعثها بالعربية، تُناقَش في حلقات المساجد، وتُدرّس في المدارس. صار النص اليوناني جزءاً من «المجال التداولي» الإسلامي، وبه تشكّل الإرث المعرفي الذي سيعبر لاحقاً إلى اللاتينية.

من هذه التربة نما الكندي مؤسِّساً للتوليف بين الوحي والبرهان، وصاغ الفارابي فلسفةً سياسية تمزج مدينة أفلاطون بفضيلة الحاكم-النبي، وبنى ابن سينا صرحاً ميتافيزيقياً ظلّ يناظر أوروبا قروناً. وعندما ترجمت طليطلة وصقلية عن العربية، لم تستقبل «أرسطو الخالص»، بل أرسطو وقد أعاد المسلمون قراءته وتهذيبه ونقضه حيناً وتصويبه حيناً.

السياسة والفلسفة: يدان متلازمتان

لم تزهر الفلسفة صدفةً في ظل الدولة العباسية؛ لقد أزهرت لأن الرعاية السياسية أرادتها أداة قوة ورمز رقيّ. فتحت السلطة المكتبات، ومَوْسست الترجمة، وراكمت رأس المال الرمزي لمدينةٍ تُضاهي عواصم العالم علماً وحكمة.

غير أن الأفكار لا تُستتبّ على الدوام؛ ما إن تُطلَق حتى تمتلك استقلالها الخاص. لا يقدر خليفةٌ أن يملي على ابن سينا هندسة الوجود، ولا أن يحُدّ لابن رشد أفق الدفاع عن قدم العالم. أضرم العباسيون ناراً معرفية تعدّت قصدهم: شُعلتها انتقلت من بغداد إلى قرطبة، ثم إلى باريس وأكسفورد، ترسم خرائط جديدة بين السلطة والمعنى.

«الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة لها.» — ابن رشد

للإطلاع على المزيد

  1. Gutas, Dimitri. Greek Thought, Arabic Culture: The Graeco-Arabic Translation Movement in Baghdad and Early ‘Abbāsid Society. Routledge, 1998.
  2. Saliba, George. Islamic Science and the Making of the European Renaissance. MIT Press, 2007.
  3. Peters, F. E. Aristotle and the Arabs: The Aristotelian Tradition in Islam. New York University Press, 1968.
  4. Adamson, Peter. Philosophy in the Islamic World: A Very Short Introduction. Oxford University Press, 2015.
  5. Nasr, Seyyed Hossein, and Oliver Leaman, editors. History of Islamic Philosophy. Routledge, 1996.
  6. Rosenthal, Franz. Knowledge Triumphant: The Concept of Knowledge in Medieval Islam. Brill, 1970.
google-playkhamsatmostaqltradent